عرض مشاركة واحدة
قديم 09-08-11, 06:35 AM   رقم المشاركة : 18
أبوفيصل
قلم متميز
الملف الشخصي







 
الحالة
أبوفيصل غير متواجد حالياً

 


 

رد: قصص قصيرة نسائية من الأدب العربي السعودي (متجدد).

الكاتبة : شريفة الشملان


الحديقة تطير




أختارُ كرسياً مستطيلاً، بجانبه شلال صناعي، تنمو شتلات الورود المختلفة من الجانبين، وبي عشق أزلي للورد البلدي، ابنتاي فلوة وفهدة تمرحان بالقرب مني، تطيرهما المرجيحة حتى تعانقا السماء الفسيحة من فوقهما، وربما تصل أنظارهما للبحر غير البعيد.
اتسلى بكتاب دائماً معي، تختلف العناوين ولكن يبقى دائماً كتاب، ومن الكتب التي أحببت قراءتها في هذه الحديقة كتاب أحوال الأمم والمدن. عندما تتعب عيناي، أقلّب النظر فيما حولي، في عامل يتناول شطيرة ومعها قنينة مياه غازية، يشربها بتلذذ عندما ينتهي يمسح على وجهه بشكر ظاهر للنعمة وبراحة جميلة.. أو مجموعة سيدات فلسطينيات يهربن من الشقق بأولادهن، تفوح رائحة الزيت والزعتر من الشطائر ويندمجن بالأحاديث ثم ينتبهن للصغار وقد تشابكوا بخصامات متفرقة، هذا غير المواليد الذين تهتز بهم الأحضان، ذاك يجعلني أخمن قصصاً وحكايات لمدن بعيدة، ولرحلاتٍ تستمر تبتعد وتقترب من الوطن لكنها لا تدخله.. تتأوه الآهات في داخلي، بينما تنطلق الضحكات منهن.
مجموعة ممرضات فليبينيات يتبادلن الكلام وربما أخبار الديار مع مواطنين لهن.. وأطفال يمرحون لوحدهم أو أن مراهقين هنا وهناك يختبئون ليدخنوا سجائر أحاول أن أسرح لذكريات مراهقتي وتتبع بنات القبيلة.
في ركن قصي فتاة تزرع على الكرسي ورقة ملفوفة بعناية، ثم سرعان ما تغادر وينزل كالصقر فتى تلتهم عيناه الورقة ويطفح النصر على وجنتيه.
فلاح الحديقة (أحمد) مصري نشيط، نحبه جميعاً، لا تهدأ حركته، بين الأشجار أو بين الشجيرات الصغيرة ينظم ويوجه الماء، ويزيل نباتاً طفيلياً يمازح الصبي ذاك والطفلة تلك، وتمتد يده لتدفع بالصغار على الدوامة كي يلفوا بانتشاء.. أحببناه جميعاً وأحببنا الحديقة الواسعة المترامية التي كانت متعته بها ليل نهار، على الشارع المقابل حديقة أخرى تماثلها كبراً، تشكلان رئتين خضراويين للمدينة الساحلية التي وجدت نفسي أعيش بها بعد أن اوقفنا الترحال من براري الله إلى هجرة ومن ثم هذه المدينة.
يغلبني الشوق كثيراً لفضاء الله الواسع، فابتعد أحياناً عن جو الحديقة لأطارد ناقة شردت أو أجمع الغنم خوفاً من ذئب يقتنص شاردة منها.
المدينة أخذتني حصرتني في شقة صغيرة كما حصرني التدريب والعمل في أصوات الآلات وألوانها وأشكالها، لذا أجد نفسي اهرب وابنتاي اللتان رأيت بهما ما يعوض حسرتي.
في الشركة البترولية الكبرى، تعلمت الكثير، تعلمت الاستقرار والثبات، وتعلمت فيما تعلمت لغة أعوج لها لساني، وسابقت لغتي الأم بالخروج، عرفت طريق البعد لمغرب الشمس.
في هذه الحديقة أحاول أن أهرب إلى الرمل إلى المنظر اللا متناهٍ، إلى شمس تشرق وهي تسكب أشعتها الجديدة بسخاء دفعة واحدة بمنظر يتكرر كل صباح.
وأغص بالقهر لمنظر لم أنسه قبل ثلاثة عشر عاماً الجنود الامريكان وهم يسحقون بآلاتهم عذريتها، ويجهضون الفقع وينثرون العقم في التربة النقية.
هذه الحديقة تؤجج بي الأفكار، وتجعل ذاك البدوي في داخلي يتقوقع ساعات طويلة يعود منطلقاً بفكره بلا حد ولا حاجز كصحراء الله الكبيرة.. لذا فكرت بكتابة قصتي والحديقة، لا بل الحديقتين.
غاب الفلاح، فجأة لم نعد نرى عم أحمد الذي كان يملأ الحديقة حساً وحضوراً وبهاءً.
لم يكن ذاك الرجل البنغلاديشي الضئيل يفهم شيئاً لا بالزراعة ولا بالبستنة ينظف المخلفات نعم، ولكن المياه لم تجد من يوجهها، ملأ الاسن أطراف السواقي وفاحت رائحة الغرب، ذبلت الشجيرات، ومات الورد الصغير وتبعها الورد البلدي، لم يعد هناك من مفرٍ لابد من عمل شيء، ذهبت كأي مواطن صالح لأبلغ البلدية الفرعية بما تم من أمر الحديقة، رأيت بعض الذبول في وجه الموظف الذي وعدني خيراً وتركني مسرعاً، عدت أكذب نفسي من نظرة الرجل وأفرح بكوني لم أسكت، وأنني أبلغتهم ليأخذوا الأمر جداً..وعدت لعملي وفي نهاية الأسبوع كانت البنتان تسبقاني بالتجهز للذهاب للحديقة.. مسكت أيديهما وعبرنا الشارع، كانت النخلات قد بدأت تستغيث، وتبخر البنغلاديشي، شعرت بخيبة ما بعدها خيبة، أنا المواطن الصالح الذي أبلغهم لم يهتموا لطلبه بل زاد الأمر إهمالاً، أقسمت أن ألقن موظفي البلدية الفرعية درساً لا ينسونه في العمل والمحافظة على البيئة والخضرة.
وحملت عريضة سهرت على تنظيمها وأعدت ترتيبها مرات، لأمين المدينة حملتها بعد أن أخذت إجازة من عملي ذاك اليوم، انني قد اتسامح بموت الورود وبفقدان الشجيرات أما أن تلتوي أعناق النخيل للأرض فذاك ما لا يمكن لأي فردٍ محترم السكوت عليه.
قلت للسكرتارية وكانا اثنين: انني أريد أن أقابل الأمين، نظرا إليّ من أعلى لأسفل وقالوا: عندك موعد.
لا ولكن المسألة حياة أو موت.
لا حول ولا قوة إلا بالله هناك اعتداء على أرض لك.
قلت أكبر حضرت من أجل الحديقة.
نظراً لبعضهما وكأنهما شعرا براحة، وأعادا جملتي: حضرت من أجل الحديقة!!
قلت نعم.
فتحا دفتراً وقالا سجل اسمك هنا.
وجدت عشرة مواطنين صالحين قد سبقوني، لكني كنت أكثر صلاحاً فقد كتبت العريضة المنقمة المقنعة عن أهمية الخضرة والمحافظة على عدة أمور تنقية الهواء، جمال المدينة، ووجود أماكن فسيحة ليلعب الأطفال رجال الغد، لذا سلمتها لهما وطلبت منهما بكل ما أملك من حجةٍ وتأثير تسليمها لمعالي الأمين.
وعداني خيراً، وعزما عليّ بفنجان قهوة عربية رائع بهار الهيل والزعفران بها مع تمر خلاص لذيذ.. ذهبت مطمئناً وودعتهما بروحٍ جميلة وإشراقة ابتسامة رضا تبدو على وجهي اكتشفت أنني نسيت هاتفي الجوال وعدت مسرعاً، كانت قطاعة الورق تلتهم معروضي الأنيق نظرت بجزع ونظرا لي بوجلٍ، شعرت أن لساني مقطوع وينزف دماً وأنني أبلع الدم، انتهى الأمر وخرجت، دارت الدنيا بي مررت على الحديقة كانت في حالة حرب بلا دفاع (بلدوزرات) البلدية تهاجمها بكل عنفٍ. وأحسست أن قلبي يتفتت ويطير مع عصافيرها التي غادرت أعشاشها، بينما كفاي تتركان المقود لتمسحا بعضهما بحسرة، طارت الحديقة!!
تلف بي السيارة فقدت السيطرة عليها، تقطع الشارع بي نحو الحديقة الأخرى الرئة الباقية، اصدم بالجدار أشعر أنها تذبل هي الأخرى، أرى أن أجنحة بدأت تظهر لها وأنها تبدأ تطير بينما جندي المرور يصرخ بي: أنت سكران!!
ويحرر لي محضراً بالتسيب باتلاف المال العام.







التوقيع :
حسابي بتويتر : saadalshehy@

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)